المقابلة

152 1 2
                                    


"لا أخرجُ إلا للتسوّق"، قال أحدهم، "آخرُ مرَّة عملتُ فيها بمكتبٍ كانت في التسعينات. وهذا أفضل. فأنا أُوفّر سعرَ البنزين وفاتورة طبيب الأذن والسَّمع كذلك: بسبب الضَّوضاء، طبعاً". كان في الثلاثينيات من عمره تقريباً، وفي آخرها غالباً، ويبدو أنَّهُ لم يرَ حاجةً لتغيير الكثيرِ من ملابسه قبلَ الخروج من منزله. فقد ارتدى سُترةً صوفية واسعةً، تناسبُ حجمه، ومعطفاً رمادياً قديماً جداً. ولم يحاول تشذيب لحيته منذ أسابيع. ولم تتجاوز استجابتهُ لانفتاح باب الغرفة الزجاجيِّ إلا بتحرُّك عينيهِ جانباً لتفحّص القادمِ الجديد، ومن ثمَّ بمتابعة حديثه إلى مستمعيه. ولم يمانع فادي بذلك جداً، فهو لم يكُن بانتظارٍ ترحيبٍ حارّ.

"شكراً"، قال فادي لفتاةٍ وهي تغلقُ الباب وراءه. وكان قد وجدَ الآن أنظارَ بعض الموجودين، غير الرَّجلِ السَّمين ذي المظهر المُهَلْهَل، تتّجهُ نحوه. أشارَ لهم بيده بقَصْد التحية، وسمعَ البعضَ يردّونها إليه، بأصواتٍ باهتة، خوفاً من مقاطعة المتحدِّث. "اسمي فادي"، قال هَمْساً، تقريباً. ولم يلحَظ أحدٌ أنَّه تكلَّم. ولم يَجِد مقعداً ليجلسَ فيه سوى في الجانب الآخر من الغرفة، فاتَّجهَ نحوه متعثّراً بالرجل السَّمين وببضعة سيقانٍ أخرى. "آسف"، قال بعدَ وصوله إلى برّ الأمان، حيثُ وجدَ كرسياً جلدياً لطيفاً بجانبِ الشبّاك، وللأسف، بجانبِ الرجل المُنهمكِ بالحديث.

"كنتُ مقبولاً"، فكَّر فادي، "لم أمنحهم انطباعاً ممتازاً، ولكن لم يفُت الأوان على تصحيحه. كُلَّ ما عليَّ هو أن أكون هادئاً، وطبيعياً". إلا أنَّه لم يكُن ينظرُ لأيّ من الحاضرين، بل نحو الباب الزجاجي. ثمَّة عشراتُ الناس يمرُّون أمام الباب يميناً وشمالاً كُلَّ دقيقة، وخلفهم عشراتُ المكاتب والحواسيب والمزيد من الناس المنهمكين في العمل عليها، أو رُبَّما المنهمكين في مراقبة فادي -هو وزملائه- وهم محبوسون بين جدران هذه الغرفة في انتظار اللحظة التي تتسارعُ قلوبهم نحوها، وقلبهُ هوَ أكثر من الجميع. ولم يستطِع أن يرى الفتاة التي اصطحبتهُ إلى الغرفة منذ دقيقة.

لا ريبَ بأنَّ الترحيب الذي تلقَّاهُ كان أفضل ممَّا توقَّعه، وهو لم يكُن أفضل ترحيبٍ ممكن، وإنَّما تجاوز الكثير من الترحيبات السيئة المُتوقَّعة، التي اعتاد صورةً منها سابقاً. في أحد السيناريوهات التي خطَّط لها، كان سيسمعُ أصوات الضحكات تتعالى والأصابع تُحلِّقُ في اتجاهه من كُلِّ زاوية عندما يفتحُ الباب، وكانت معظم الأصابع ستَّتجهُ نحو ربطة عنقه، إذ سيلفتُ كُلٌّ منهم انتباه زميله إلى نحالتها وقصرها ولونها غير المتماشي مع حذائه، ثُمَّ سينتقلونَ إلى شعره ليقولوا أنَّه لـ"عارضات الأزياء"، وستكونُ الخاتمة ببقعة الحبر التي فوق الجيب الأيمن من معطفه، والتي سيطردونهُ إلى الخارج حالَ وقوع أنظارهم عليها. وقد كان مستعداً للهربِ إذا رأى أيَّ علامةٍ أو بادرة مشؤومة على إمكانية تحوُّل هذا المشهد إلى حقيقة، ومن ثمَّ تلقَّى استقبالاً جعلهُ يُغيّر رأيهُ تماماً.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Dec 03, 2020 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

المقابلةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن